من هم الرجال؟

للرجولة معنيان: الأول: الذكورة التي هي ضد الأنوثة، أما الثاني فالمقصود به أولئك الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهم الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً.

حقيقة الرجال في كتاب الله عز وجل



الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب ويؤلف بينها، قال تعالى: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله عنا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء، أما بعد: فإن عنوان الكلام لو أجبنا عنه بأي جواب لنازعنا عليه الناس؛ لأن أصحاب الفن يقولون: نحن الرجال. ولأن أصحاب اللهو واللعب يقولون: نحن الرجال. ولأن أصحاب المال والثراء يقولون: نحن الرجال. وهكذا كل يزعم أنه هو الذي على مستوى الرجولة الحقة، لكن نحن لن نخبر عن أنفسنا أو عن أحد من الناس بأننا نحن الرجال أو هم الرجال، بل ندع القرآن هو الذي يجيب على هذا السؤال: من هم الرجال؟ ومن هذا المنطلق نريد أن نتحدث لنعرف حقيقة الرجال، ولنزن الناس بهذا الميزان، فمن كان على هذا المستوى فهو في مستوى الرجولة، ومن كان دون ذلك فهو لم يصل بعد إلى مستواها، وبإمكانه أن يصل إلى هذا المستوى. ......


معنى قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض)



يقول الله عز وجل: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35] وفي قراءة: (الله نَوَّرَ السموات والأرض)، وفي قراءة ثالثة: (الله منور السموات والأرض) مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:35-37]. ......



المراد بالنور في قوله تعالى: الله نور السموات والأرض



اختلف المفسرون في معنى الآية الأولى: (الله نور السموات والأرض) فمنهم من قال: إن المراد بهذا النور هو صفة من صفات الله عز وجل واسم من أسمائه، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، والنور لا شك أنه من أسماء الله عز وجل وصفاته، ولكننا نميل إلى غير هذا الرأي؛ لأن مثل هذا الرأي يؤدي إلى شيء من التشبيه؛ لأننا حينما نقول: إن المراد بالنور هنا هو اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فهذا لا يصلح على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن صفات الله عز وجل وأسماءه لا يشبهها شيء، والله تعالى يقول: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ)، اللهم إلا إذا قلنا: إن هناك انفصالاً بين النور المذكور في أول الآية وبين ما جاء في وسط الآية، فيكون قوله تعالى الله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) هو النور الحق الذي هو اسم من أسمائه، وقوله: (مثل نوره) هذا لا شك أنه مخلوق؛ لأن الله تعالى شبهه بمشكاة فيها مصباح، وأسماء الله عز وجل وصفاته لا يشابهها شيء. والرأي الذي نميل إليه أن المراد بهذه الآية هو النور المخلوق، شبه الله عز وجل نور الإيمان الذي يقذفه في قلب العبد المؤمن بأقوى نور عرفه الإنسان وقت نزول الآية، حيث قال: (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).



أعلى الصفحة



تشبيه الله عز وجل لنوره بمشكاة فيها مصباح ووجه التشبيه في ذلك



قوله: (كمشكاة) المشكاة هي الكوة في الجدار التي لا تنفذ إلى الوراء؛ لأنها تعكس النور إلى الأمام، هذه هي المشكاة، أو المراد بالمشكاة فتيل السراج. قوله: (فِيهَا مِصْبَاحٌ) المصباح معناه السراج. (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) والزجاجة هي الأجسام الشفافة التي تشف عما وراءها؛ لأنها تزيد الضوء ضياءً. قوله: (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) الكوكب معناه: النجم، أو النجم الكبير، وفي قراءة سبعية (دريء) بالهمز، من الدرء، ومعناها: قذف الأنوار القوية. ثم وصف الله عز وجل السراج مرة أخرى فقال: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) أي: والذي يوقد هو السراج، والشجرة المباركة هنا هي شجرة الزيتون. ثم وصف الله عز وجل شجرة الزيتون التي يؤخذ منها الزيت الذي يوضع في هذا السراج بالذات، حيث يقول: (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) والشرقية هي الشجرة التي تصيبها الشمس في وقت الشروق، والغربية هي الشجرة التي تصيبها الشمس في وقت الغروب، لكن هذه الشجرة ليست شرقية فحسب، وليست غربية فحسب، لكنها شرقية غربية، أي أن شجرة الزيتون إذا طلعت الشمس أصابتها في وقت الشروق، ولا تغيب عن الشمس حتى تغرب فتصيبها في وقت الغروب؛ لأنها شجرة منفصلة عن غيرها، فيحسن زيتها ويحسن ثمرها، فيصبح زيتها لماعاً، بحيث لو نظرت إليه لرأيت كأنه يضيء دون أن تمسه النار، فكيف إذا وضع في السراج ومسته النار؟! ثم وصف الله عز وجل هذا الزيت بقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ)، فالنور الأول هو نور الكوة غير النافذة التي تعكس الضوء، مع نور آخر وهو نور الزجاجة، مع نور السراج الذي وضع فيه زيت شجرة الزيتون التي ليست بشرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية، فهذه أنوار شديدة. وهذا هو المشبه به، فأين المشبه؟ المشبه هو قلب المؤمن، أو الإيمان الذي يقذفه الله عز وجل في قلب المؤمن. فتقدير هذه الآية: مثل نور الله عز وجل المخلوق الذي وضع في قلب المؤمن حتى يعرف به الحلال من الحرام، والضار من النافع، والخير من الشر، كمثل نور ذلك المصباح الذي وضع في كوة غير نافذة، ووضعت عليه زجاجة وأشعل فيه زيت زيتونة ليست شرقية فحسب ولا غربية فحسب، ولكنها شرقية غربية. هذا هو المشبه وهذا المشبه به، ووجه الشبه هو اللمعان الشديد.



أعلى الصفحة


تحديد مكان تخرج الرجال ووجه علاقة الآية بالتي قبلها



يقول عز وجل في الآية الثانية: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ... [النور:36]، يقول علماء التفسير: هذا جواب استفهام بياني، كأن سائلا يسأل ويقول: أين يوجد هذا الإيمان العظيم الذي هو كسراج يضيء بهذه الأوصاف المذكورة؟ فالله تعالى أجاب على هذا السؤال فقال: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) ومن هنا نعرف أين يتربى الرجال، وأين يولد الإيمان، وأين يترعرع الإيمان، وأين ينمو، كل هذا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) وهذه البيوت هي المساجد. قوله: (أذن الله أن ترفع) أي: تبنى وتشيد, وليس المعنى أن تزخرف وتوضع فيها الكتابات التي تلهي الناس، أو الفرش المزخرفة أو الألوان المزخرفة التي عمد إليها الناس في أيامنا الحاضرة، حتى لقد عددت في مسجد واحد قريب أكثر من ثلاثمائة قنديل يُضيء، وليس فيه إلا عشرة رجال يصلون، وهذا خلاف المألوف. فهذه البيوت هي المساجد، وقد أذنَ الله تعالى أن ترفع حقيقة بناءً وتنظيفاً وتشييداً وتطهيراً واحتراماً وتقديساً، فلا يكون فيها لغو ولا لعب ولا كلام من كلام الدنيا، ولا بيع ولا شراء ولا إنشاد ضالة، ولا أي شيء من هذه الأشياء التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وإنما ترفع بذكر الله عز وجل وتطهر لتصبح صالحة للصلاة، ولذلك من علامات الساعة أن يتباهى الناس بالمساجد، فيقال: مسجدنا أجمل من مسجدكم. بينما لا يقال: مسجدنا أكثر جماعة من مسجدكم. وكذلك يقال مسجدنا أكثر زخرفة من مسجدكم، ومسجدنا أفضل فرشاً وأحسن ألواناً من مسجدكم. وهكذا. أما الإسلام فإنه ينظر إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى الحقيقة لا إلى الصورة، ولذلك الله تعالى قال: ( أَنْ تُرْفَعَ ) والمراد بها الرفعة الحسية المعقولة، والرفعة المعنوية الحقيقية. قوله: (في بيوت) يقول المفسرون: هذه جملة متعلقة بقوله ( يوقد ) أي: يوقد هذا الإيمان وينشأ هذا الإيمان ويترعرع هذا الإيمان في هذه المساجد التي أذان الله أن ترفع. قوله: ( وَيُذْكَرُ فِيهَا اسْمُهْ ) هذه هي الرفعة المعنوية. ثم بين بعد ذلك التربية الحقيقية والمكان المناسب لهذه التربية فقال: ( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) والمراد بالتسبيح هنا الصلاة؛ لأن التسبيح كثيراً ما يذكر في القرآن والمراد به الصلوات الخمس، وإن كان يطلق أيضاً على ذكر الله عز وجل عامة. قوله: ( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) الغدو: هو أول النهار. والآصال: آخر النهار. فالغدو صلاة الفجر؛ لأن الغدو يبدأ من نصف الليل إلى نصف النهار، والأصيل يبدأ من نصف النهار إلى نصف الليل، ولو نظرت إلى نصف الليل الأخير ونصف النهار الأول فإنه ليس فيهما إلا صلاة واحدة وهي صلاة الفجر، وكأن صلاة الفجر أصبحت تساوي الصلوات الأربع الأخرى، بل جعلت صلاة الفجر في كفة؛ لأنها تقع في وقت الغدو، وجعلت الصلوات الأربع -الظهر والعصر والمغرب والعشاء- كلها في كفة أخرى؛ لأنها تقع في وقت الأصيل كلها، ثم قدمت صلاة الفجر على الصلوات الأربع، مما يدل على أهمية صلاة الفجر. ولا نرى في المساجد من المسلمين في صلاة الفجر إلا قليلاً! أليست صلاة الفجر هي التي يقول الله عز وجل عنها: وَقُرْآنَ الْفَجْر [الإسراء:78] أي: وأمدح قرآن الفجر. إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. ويقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى هذه الآية: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيصعد الذين كانوا فيكم فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون)، أي: في صلاة العصر وصلاة والفجر. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما فيهما -أي: العشاء والفجر- لأتوهما ولو حبواً)، وأثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله). ......


معنى قوله تعالى: رجال لا تلهيهم تجارة ...



قوله تعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... [النور:37]. قوله: (رجال) هذه الكلمة لها معنيان: الأول معروف، والثاني لا يعرفه إلا القليل من الناس، والمقصود هنا الاثنان جميعاً. المعنى الأول: كلمة رجل ضد الأنثى، تقول: هذا رجل وهذه امرأة. وهذا المعنى يعرفه كل الناس. المعنى الثاني: أن كلمة رجل تدل على تعظيم هذا الجنس من الرجال، ولذلك لا ترد أو قل أن ترد كلمة (رجال) في القرآن أو في السنة إلا وتدل على معنىً آخر غير معنى الذكورية زيادة على معنى الذكورية، مثلاً: ابنك أعجبك عمله فتقول له: أنت رجل. فأنت لا تقصد بقولك: (أنت رجل) ضد الأنثى، لا؛ لأنه يعرف أنه رجل، وأنت تعرف قبل ذلك أنه رجل، لكنك تقصد بذلك أنه قد اكتملت فيه معنى الرجولة فأصبح في مستوى الرجال، ولذلك قوله: ( رجال ) هنا ليس معناها ذكوراً فقط، وإن كانت تعطينا معنىً وحكماً شرعياً بأن صلاة الجماعة لا تجب على الإناث وإنما تجب على الذكور فقط، لكن كلمة (رجال) تعطينا معنىً آخر، وهو أنه قد استكملوا صفات الرجولة فأصبحوا في مستوى الرجال وفي مصاف الرجال حقاً، ولذلك لم ترد إلا نادراً كلمة (رجال) في القرآن كهذه؛ لأنها مدحت أهل المساجد فقالت: (رجال) وفي ذكر الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً [يوسف:109]، وفي ذكر المجاهدين في سبيل الله: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]، ووردت في صفة أهل الأعراف: وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ [الأعراف:46]، وهذه كلها تدل على تعظيم ورفع مستوى هؤلاء الرجال، أي: ليسوا ذكوراً فحسب ولكنهم رجال، ولذلك جاءت بلفظ التنكير، والتنكير دائماً يدل إما على التحقير أو على التعظيم، والمراد به هنا التعظيم. إذاً قوله: ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ ) أي: ذكور وصلوا إلى مستوى الرجال حقاً، فأصبحوا يستحقون كلمة (رجال) التي لا يستحقها كثير من الناس. ......


صفات الرجال الذين تربوا في المساجد



ما هي صفات هؤلاء الرجال؟ انظر إلى صفات هؤلاء الرجال، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم وممن يربي أولاده حتى يكونوا في هذا المستوى من الرجولة. أولاً: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ). ثانياً: ( يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) هاتان صفتان لهؤلاء الرجال في الدنيا، أما جزاؤهم في الآخرة فيقول سبحانه عنه: لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38]. ......



عدم انشغالهم بالدنيا عن ربهم وطاعته وذكره



الصفة الأولى: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ). يقول المفسرون: إن هؤلاء الرجال لهم تجارة ولهم بيع وشراء وأموال ومصانع ومتاجر ومزارع، لكنهم يضعونها في أيديهم، ويضعون الحياة الآخرة في قلوبهم، ولذلك لما رأى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المسلمين كان قد رفع الميزان في يده يزن البضاعة للمشتري، فلما سمع المؤذن يقول: (الله أكبر) وضع الميزان دون أن يكمل الوزن، ثم هرول إلى المسجد وأغلق دكانه، فقال: (هؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37]). ولا يظنن أحد أن المراد بهؤلاء أنهم قوم يعيشون عالة على الناس ويتكففون الناس، وأنهم يعيشون على أوساخ الناس وفتات الصدقة، لا، ولكنهم قوم لهم أعمال، إلا أنهم جعلوا هذه الأعمال المادية الدنيوية في أيديهم والآخرة في قلوبهم، ولذلك وصفهم الله عز وجل بهذه الصفات: ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ). أيها الأخ الكريم! نحن الآن نعيش على طرفي نقيض في هذه الحياة، فمن الناس من أغرق في المادية إغراقاً كاملاً وأهمل الروح، وهذا يتمثل في الإلحاد والشيوعية الحاقدة الكافرة، فقدسوا المادة وأهملوا الروح، وأصبحت المادة هي منتهى أمنياتهم. وهناك آخرون أوغلوا في الروحانية وألغوا المادة إلغاءً نهائياً، وصار دينهم، أما دين الإسلام فإنه يوجب على المسلم أن تكون له صنعة وأن تكون له تجارة وأن تكون له وسيلة كسب، لكن هذه كلها لا تلهيه عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك الله تعالى جعلنا -أمة المسلمين- أمة وسطاً بين طرفي نقيض، فلسنا بالأمة المادية التي تقدس المادة وتعبد المادة ولا تعترف إلا بها، ولا بالصوفية التي تهمل الجسد وتقدس الروح، ولكننا أمة كما يقول الله عز وجل: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ). وهنا كلمة نقولها لإخواننا التجار: اصدقوا في المعاملة، وتعاملوا مع الناس بأمانة وصدق، واكسبوا هذا المال من الحلال، وأنفقوه في وجوه الخير، واحذروا كسب الحرام، واحذروا أن تلهيكم هذه الأموال عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحينئذٍ أبشروا فإن الله عز وجل قال للرجل الغني الشاكر الذي فتح الله له كنوز الدنيا: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]، كما قال للرجل الفقير الصابر: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]. وعلى هذا نقول: هؤلاء الرجال لهم تجارة، ولكن تجارتهم في أيديهم وليست في قلوبهم، فإذا دخل أحدهم في الصلاة وقال: (الله أكبر)، لا تأتي هذه التجارة في مخيلته، فلا يبيع ولا يشتري ولا يأخذ ولا يعطي وهو يصلي، بل هو واقف بين يدي الله عز وجل كما أمر الله عز وجل، لكنه حينما ينصرف من صلاته فإنه الرجل الذي يتعامل مع الناس بأمانة وصدق، والتاجر الصدوق له أجره عند الله عز وجل، وهنا مدح الله المؤمنين وهم أصحاب تجارة فقال: ( لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )، والفرق بين التجارة والبيع أن التجارة هي التي تكون بالإيراد والاستيراد والبيع الإجمالي، أما البيع فالمراد به البيع الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.



أعلى الصفحة



خوفهم من يوم القيامة



الصفة الثانية: ( يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ). إن الناظر إلى واقع الناس اليوم -مقارنة بما في هذه الآية- يجد الفرق البعيد الواضح، قوم تربوا في المساجد وقلوبهم معلقة بالمساجد، ولا يعرفون أي طريق إلا طريق الجنة، ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم هم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وفي المقابل هناك قومٌ يفسقون ويفسدون ويركبون كل المناكر، ولا يتركون معصية من معاصي الله عز وجل إلا ويركبونها، ثم تجدهم يضحكون بملء أفواههم، الصنف الأول قوم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهؤلاء في غفلة لا ينتبه أحدهم إلا حينما يأتي ملك الموت ليجلس عند رأسه ويقول: (أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله) أما الصنف الأول فإنه كما أخبر الله عز وجل عنهم أنهم يخشون الله عز وجل ويبيتون لربهم سجداً وقياماً ويخافون من النار ويقولون: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [الفرقان:65] ولذلك من خاف أدلج، يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم. أما الذين يلهون ويلعبون ويضحكون ويسرحون ويمرحون دون قيود ودون ضوابط لا ينتبه أحدهم إلا في ساعة الموت، فالويل لهؤلاء إن لم ينتبهوا قبل ذلك. وهنا يقول الله عز وجل عن هؤلاء المتقين: ( يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) هذه ناحية. الناحية الأخرى التي يجب أن نفهمها من هذه الآية: أن غلاة الصوفية يقول قائلهم: أنا أعبد الله لا خوفاً من عذابه ولا طمعاً في جنته. وكيف تعبد الله؟ قال: أعبد الله محبة له. وهذه كلمة يقولها غلاة الصوفية، كما كانت تقول رابعة العدوية : والله ما عبدت الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته وإنما عبدته محبة له. فهذه كلمة ساقطة؛ فالمؤمنون الرجال الذين تربوا في المساجد يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، بل أعظم من هؤلاء المرسلون عليهم الصلاة والسلام، لما ذكرهم الله عز وجل في سورة الأنبياء قال في آخر قصصهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء:90] (رغباً ورهباً) أي: رغبة مما عند الله من المثوبة، وخوفاً فيما عند الله عز وجل من العذاب. هذه هي صفة المؤمن، ونحن نعبد الله محبة له، لكن -أيضاً- نعبده خوفاً من ناره وطمعاً في جنته، ولذلك الله تعالى يقول عن هؤلاء الأتقياء الصالحين: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار). قوله: ( يخافون يوماً ) ما هو هذا اليوم؟ هو يوم القيامة الذي يغفل عنه كثير من الناس، فلا يتصورون ساعة القدوم على الله، ولا يتصورون ساعة الموت، ولا يتصورون ساعة القبر، ولا يتصورون يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولا يتصورون يوم تتطاير الصحف فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، ولا يتصورون الوزن الذي يقول الله عز وجل عنه: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، ولا يتصورون الصراط الذي يقول الله عز وجل عنه ويقسم على ذلك: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72]، هنا الله تعالى ذكر صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد. قوله: (يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) ما معنى: (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ)؟ أي: من شدة الخوف يضطرب القلب حتى يتحرك بشدة، فينتقل من مكانه إلى الحنجرة. وهذا هو معنى قوله تعالى: إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18]، وذلك من شدة الخوف، فانظر -يا أخي- حينما تخاف أو حينما يزعجك أمر كيف يضطرب قلبك بسرعة حتى ينسد النفس؟! إذاً يتقلب القلب في ذلك المكان وفي ذلك الزمان حتى يصل إلى الحنجرة، والأبصار -أيضاً- تتقلب فتقفز من أماكنها إلى أعلى الرأس، وهذا شيء نشاهده حينما يصاب الإنسان بذعر، يرتفع بصره إلى السماء، وكأن البصر قد قفز من مكانه إلى أعلى الرأس، هذه هي صفات المؤمنين الذين تربوا في المساجد، رجال يسبحون الله دائماً وأبداً ويخافون من الله عز وجل.



أعلى الصفحة


جزاء الرجال الذين تربوا في المساجد عند الله



أما الجزاء والنتيجة والثمرة لهذا الخوف فيقول الله: لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النور:38]، فالله تعالى كريم لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8]. ولذلك الله تعالى يقول: (لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) أي: يجازيهم بالحسنات ويتجاوز عن السيئات، والسيئات المراد بها هنا الصغائر، أما الكبائر فإنها تحتاج إلى توبة، ولكن لو قدم هذا الإنسان على الله عز وجل بملء الأرض خطايا وهو على ملة التوحيد ولا يشرك مع الله عز وجل أحداً كائناً من كان، ولا يكون هناك في قلبه ند لله عز وجل فإنه يقدم على رب رحيم غفور، يقول عز وجل في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، وهذا من فضل الله عز وجل، وهذا دليل على أهمية التوحيد في حياة الناس، فإذا صلح التوحيد صلحت الأعمال بعد ذلك كلها، لكن إذا اختل جانب التوحيد ولو اختلالاً يسيراً فإننا نخاف على المخل حينئذ، فاهتم بالتوحيد أخي الكريم، ولا تصرف نوعاً من العبادة لغير الله كائناً من كان هذا المخلوق، ولو كان أفضل البرية محمداً صلى الله عليه وسلم، ولذلك أقول: إن علينا أن ننزه الله عز وجل تنزيهاً كاملاً، وأنا آسف كثيراً لما نراه من اتجاه طائفة كثيرة من المسلمين إلى أصحاب الأضرحة والقبور، وأصبحت الأضرحة يطاف بها ويتمسح بها وتسأل منها الحاجات من دون الله عز وجل، وتقرب لها القرابين وتنذر لها النذور وتصرف الأموال وتذرف الدموع حولها، ويطوف الناس بها كما يطوفون حول الكعبة، وهذا موجود في جل بلاد الإسلام، ونشكر الله عز وجل، فبلدتنا حماها الله عز وجل بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، نسأل الله أن يجزيه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، حفظها الله عز وجل بسببه، ولذلك فإن أهل العالم المتحضر الآن يسألون أصحاب القبور ويطوفون حول قبورهم كما يطوف المسلمون حول الكعبة المشرفة، ولا يرى ذلك إلا من يسافر خارج هذه البلاد المباركة. ولكني أقول: هناك وسائل يسيرة وقليلة بدأت الآن تغزو مساجدنا وبيوتنا نريد أن ننزه المسلمين منها، وعلى سبيل المثال: نجد في بعض المساجد مكتوباً (الله، محمد)، ولو قلنا لواحد من الناس الجهال -لا أقصد العقلاء-: لماذا هذا الفعل؟ لقال: أنتم لا تحبون الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول: والله ما دفعنا إلى هذا القول إلا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي دعانا إلى التوحيد، وقضى ثلاثة عشرة سنة وهو يقول للناس (قولوا: لا إله إلا الله)، أما أن نضع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار اسم الله عز وجل سواء بسواء دون أن نرفع أحدهما على الآخر فإن هذا أخشى أن يكون وسيلة في يوم من الأيام إلى البدعة أو الشرك. وهناك أناس كثيرون يقولون: يا الله. يا رسول الله. وأخشى من هذه المعلقات التي تعلق في المسجد وفيها (الله) و(محمد) بجوارها أن يأتي يوم من الأيام يضاف إليها (ياء) كما يصنع أصحاب المذاهب الهدامة الذين يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وايم الله لو بعث الرسول صلى الله عليه وسلم فينا اليوم لقطع رءوس هؤلاء قبل أن يقطع رءوس الملاحدة والفسقة والعصاة؛ لأن الشرك أمره خطير، ولإن التوحيد هو مفتاح الجنة، ولا يدخل الجنة إلا موحد, فقد حرم الله على النار من قال: (لا اله إلا الله). قوله: ( لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) أي: فيعطيهم الله أكثر مما عملوا. ولذلك يقدم المرء يوم القيامة على الله عز وجل فيجد أعمالاً كالجبال قد سجلت في صحائف أعماله, فيقول: والله -يا رب- ما عملت هذه الأعمال. فيقول: بلى، كنت تفعل كذا، وكنت تقضي حاجات الناس، وكنت ... إلى آخره. فلا تحقر من المعروف شيئاً ولو أن يلقى المسلم أخاه المسلم بوجه طليق, فإن هذه تحسب حسنة له يجدها يوم يقدم على الله عز وجل. قوله: ( لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) هذا هو مثل المؤمنين، وهؤلاء هم الأتقياء الذين تربوا في المساجد. ......


المخالفون للتربية المسجدية



......



المخدوعون



يقول تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ... [النور:39] هذا القسم مخدوع يظن أنه يعمل الصالحات، لكن عمله لا يقبل عند الله لأحد ثلاثة أسباب: إما أن هذا العمل يفقد الإيمان, أو أن هذا العمل يفقد الإخلاص لله عز وجل، أو أنه يفقد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن أي عمل لا تتوافر فيه هذه الشروط الثلاثة -إيمان، وإخلاص، ومتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم- لا يقبل عند الله عز وجل، وهذا هو العمل الصالح الخالص الذي يقوم على قاعدة الإيمان. قد يقدم المرء كل ماله ويفتح به المدارس والمستشفيات ويبني القناطر والترع والجسور، ويقدم كل أفعال الخير للناس، لكنه يقدم ذلك بدافع الإنسانية، وقد يصوم ويصلي ويؤدي الواجبات، لكنه غير مؤمن في قرارة نفسه وغير مقتنع بالدين من أصله، وقد يؤدي أعمالاً نعجز نحن أن نؤدي جزءاً منها، لكنها لا تبدأ ولا تنتهي بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كلما أعجبه شيء من هذه الأعمال فعله، ونسي أن الله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، فكلما أعجبه شيء من العبادات فعله، وهكذا حتى إذا قدم على الله لا يجد شيئاً من هذه الأعمال أبداً. فما هو مثل هذه الرجل الذي لا يقوم عمله على الإخلاص والمتابعة والإيمان؟ مثله كمثل إنسان كان يسير في صحراء فعطش وليس معه ماء، وكان في شدة القيظ والحر، فرأى من بعيد شيئاً كالماء على سطح الأرض يسميه أهل اللغة (السراب) وسمي السراب لأنه يتسرب كما يتسرب الماء، وإذا كان ممتداً بين السماء والأرض يسمونه (الآل) فصار يركض وراء هذا السراب, وكلما قرب من هذا السراب ابتعد هذا السراب، حتى يهلك دون هذا السراب، حتى السراب لم يجده فضلاً عن أن يجد الماء, هذا هو المثل الذي ضربه الله عز وجل لمن عمله ظاهره الخير وباطنه الفساد. فيكون العمل فاسداً ولو كان ظاهره الخير إذا فقد أحد ثلاثة شروط: الإيمان بالله عز وجل، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم, فبدون هذه الشروط يكون العمل كالسراب، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ [إبراهيم:18] فلو هبت الريح على رماد فإنها لا تترك منه ذرة واحدة. قوله: (بقيعة) أي: أرض مستوية. قوله: (يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) أي: ولا سراباً. أما في يوم القيامة فأعماله هذه يجدها، قال سبحانه: ( ووجد الله عنده فوفاه حسابه ) أي: لم يظلمه الله. لكن عمله كان فاسداً؛ لأنه لا يقوم على قاعدة الإيمان والإخلاص والمتابعة، والله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، فأرسل المرسلين ليكونوا قدوة للبشر، ولينذروهم وليبشروهم. وهذا المثل ضربه الله عز وجل للذي لا يأخذ منهجه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخذ منهجه من آبائه وأجداده، أو من مجتمعه ولو كان المجتمع منحلاً أو فاسداً، قال الله عنهم وعن رسولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:23-24]. إذاً المسلم يأخذ دينه من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء الموثوقين الذين يثق بإيمانهم ودينهم، وليحذر التقليد، خاصة في أصول دينه؛ لأنه حينما يقلد في أصول دينه يسير على منهج آبائه وأجداده، وقد يضل الطريق من هذه الناحية، فيكون عمله -نسأل الله العافية والسلامة- كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.



أعلى الصفحة



المفسدون العصاة



هناك نوع آخر فاسد وعمله فاسد، ويعرف أن عمله فاسد، ومع ذلك يضع السيئة تلو السيئة والكبيرة فوق الصغيرة والأكبر من الكبيرة فوق الكبيرة، ولربما يمرق من الدين نعوذ بالله؛ لأن الله تعالى يقول: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] فتراه يترك الواجبات ويرتكب كل المحرمات وهو يعرف ذلك، هذا ضرب الله عز وجل له مثلاً آخر غير مثل الرجل الأول، قال عز وجل: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور:40]، فلو أن واحداً منا غاص في بحر عميق كثير الماء عظيم اللجة، وكان البحر مضطرباً بالأمواج، وكان فوق هذه الأمواج أمواج أُخر، وكان فوق الأمواج الثانية سحاب وهو في قعر البحر فإنه يصبح وكأنه في أشد ما يكون من الظلام، بحيث لو رفع يده وهي أقرب أعضائه إليه لينظر إليها لم يرها، هذا هو المشبه به، والمشبه هو صاحب الكبائر الذي ركب كل الذنوب -نعوذ بالله- وأدبر عن الله عز وجل، وترك الواجبات وفعل المحرمات، إذا قدم على الله عز وجل لا يجد إلا ظلاماً في ظلام، إلا أن يعود إلى ربه قبل أن تعاجله المنية.



أعلى الصفحة


الفرق بين رجال المساجد ورواد محاضن الفساد



إن أي قوم يتربون بعيدين عن المسجد فإن عاقبتهم وخيمة، وأي قوم يتربون في المساجد فهم الرجال الذين سيخلصون هذه الأمة في مستقبلها القريب والبعيد من أزمات كثيرة، ولذلك أقول: لا سبيل إلى إصلاح أبنائنا وإصلاح الأجيال القادمة والأمم اللاحقة إلا أن يتربى هؤلاء الشباب في المساجد في حلق الذكر ومجالس العلم، يتلون كتاب الله عز وجل ويتدارسونه فيما بينهم، ويحضرون الصلوات الخمس، ويقفون أمام الرجال العقلاء، ويعرفون الله عز وجل حق المعرفة، ويتصورون ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وحينئذٍ سيكون هؤلاء رجالاً. أما لو ربينا أبناءنا في أماكن أخرى أمام الأفلام والمحرمات والمواخير ودور الفساد والخمر وما أشبه ذلك فستنشأ ناشئة لا تعرف الله عز وجل، ولا تعرف حق الآباء ولا حق الأهل ولا العشيرة، ولا حق الوطن، ولا حق المستقبل، ولا حق الأجيال اللاحقة. فالشباب الذين يتربون في المساجد هم الذين يعمرون هذه الحياة، ولذلك فإنه يلزم أي واحد منا أن يربي أولاده في المسجد، وأن يأخذهم معه إلى المسجد حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (مروا أبناءكم للصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع). ......


نماذج من شباب ورجال المساجد



المساجد هي التي ربت الرجال، اقرأ تاريخ البشرية بصفة عامة، واقرأ تاريخ الإسلام بصفة خاصة لتعرف كيف ربى الإسلام الرجال، شباب في سن المراهقة، لكن كانت عقولهم ومستوياتهم فوق عقول الرجال في أيامنا الحاضرة، فهذا أسامة بن زيد رضي الله عنه حب رسول الله وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاد الجيش إلى بلاد الشام وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقد جهز هذا الجيش صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف أبو بكر و عمر هل يسير هذا الجيش إلى بلاد الشام أو يبقى، فـعمر رضي الله عنه يرى أن يبقى هذا الجيش لحراسة المدينة، وأبو بكر يرى أن يذهب هذا الجيش تحقيقاً لتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، وفعلاً يسير هذا الجيش ويظهر قوةً للأمة الإسلامية، ويبين للرومان أن الأمة الإسلامية بالرغم من وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم أنها ما زالت بخير، وأنها أرسلت هذا الجيش الجرار إلى بلاد الشام من المدينة، ويقوده رجل لا يتجاوز الثامنة عشر من عمره. وهذا محمد بن القاسم رحمة الله عليه رجل في السابعة عشرة من عمره قاد جيشاً إلى بلاد السند، وفتح لنا شبه القارة الهندية التي تعتبر الآن من أكثر بلاد الإسلام كثافة، فتحها هذا الشاب وهو لا يتجاوز السابعة عشرة من عمره. ومن هؤلاء الرجال عقبة بن نافع رضي الله عنه، الرجل الذي كان يقود جيشاً في شمال أفريقية، ويسابق الشمس على مطالعها، ويصل بجيشه إلى تونس الحالية، وعندما أراد أن يبني مدينة القيروان لتكون قاعدة للمسلمين في شمال أفريقية أتى إليه أهل تلك البلاد وقالوا له: يرحمك الله أيها الأمير! هنا غابات رجع الفاتحون دونها, فلن تستطيع أن تبني فيها مدينة القيروان. فيقول لهم: لابد من أن أبني فيها مدينة القيروان. ويقف على جانب الغابة ويخاطب الوحوش ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لننشر الإسلام. يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها تخلي الغابة لـعقبة بن نافع ليقيم عليها مدينة القيروان. ثم يسير هذا البطل المؤمن ابن المسجد متجهاً إلى جهة الغرب حتى يغرز قوائم فرسه في مياه المحيط الأطلسي ويقول: لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً لخضته إليه على فرسي. وينشر الإسلام في شمال أفريقية ويستشهد هناك. أما قتيبة بن مسلم فإنه اتجه شرقاً, ففتح بلاد ما وراء النهر وتوغل فيها، ثم سأل أصحابه ذات يوم وقال: أي بلد أمامنا؟ فقالوا: يرحمك الله هذه بلاد الصين. فقال: والله لا أرجع إلى أهلي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين, وأضع وسم المسلمين على الصينيين, وأفرض عليهم الجزية. ثم تصل الأخبار إلى ملك الصين, فيخاف من قتيبة بن مسلم رحمة الله عليه, ويرسل صحافاً من الذهب قد ملئت بتراب الصين ويرسل أبناءه الأربعة ويرسل الجزية ويقول: هذه تربة الصين ليبر قتيبة بقسمه ويطأها وهو في مكانه, وهذه هي الجزية، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم وسم العرب. ثم يعود قتيبة بن مسلم إلى بلاده بعد أن نشر الإسلام في أقصى الشرق. ......


أهمية المسجد في تخريج الرجال
0 comments:

Enregistrer un commentaire